في تجارب الفنانين المشاركين في الدورة الجديدة للمهرجان، نلاحظ أن العلوم الرياضية والهندسية إلى جانب العلوم الفيزيائية وعلم النانو، قد استثمرت بطرق مختلفة للتعبير عن عناصر الفنون الإسلامية، وعكست ثيمة «أثر» في أعمال تجلت فيها براعة التصميم، ومن جهة أخرى استخدام خامات متعددة كالزجاج والورق والأخشاب، بالإضافة إلى الاستفادة من مكونات الفنون المعاصرة، كاستثمار الطاقة الفيزيائية للضوء، ونسج علاقة جديدة مع المشاهد محورها تأمل البيئة والكون والحياة، وفق رؤية جديدة تبحث عن البعد الكوني والروحي في هذه الموجودات.
العلاقة بين علم الرياضيات والكون، تقع في صلب اهتمام «محترف توي» حيث قدم الفنانان البريطانيان إينيس شيلي وتوبي بلونكيت، عملاً بعنوان (مزهر)، هو عبارة عن تركيب هندسي ضوئي، أو بعبارة أصح تركيب مجهز بواسطة الحاسوب، بغرض التأمل في الكون والحياة.
تبرز في هذا العمل الطبيعة الرياضية الصرفة، انطلاقاً من كون الرياضيات تستطيع وصف الكون من حولنا، سيما وأنه بواسطة علوم الرياضيات سبق وأن اكتشف الإنسان الكثير من المفاهيم التي أسست لتطوير نظريات متقدمة، قدمت فهماً أعمق للكون.
الشكل الظاهري للعمل يقدم تركيباً مرئياً، هو عبارة عن مجسم مستوحى من الأشكال النجمية المعقدة، ومن ينظر إليه يصبح على مسافة قريبة من المعنى الذي يريد إينيس شيلي وتوبي بلونكيت، أن يقرباه من وجدان وعقل المشاهد، هذا المشاهد الذي ينتقل إلى مرحلة أخرى من الإحساس الروحاني، ويصبح بالتالي أكثر من مراقب محايد لهذا العمل، ويصبح مشاركاً فعلياً في محاولة الإجابة عن الأسئلة الناجمة عن هذا الشكل الهندسي المركب، والذي صمم تبعاً لمعادلات رياضية تضبط الزوايا والسطوح وفق هيكلية مدروسة تحفز على التفكير والتأمل في طبيعة هذا الكون الشاسع الذي يتسم بالسحر والجمال.
الرياضيات بالنسبة لهذين الفنانين، هي بالفعل وسيلة ناجعة للتفكير، وهي أيضاً لغة الكون ونافذة نحو فهم البنية الأساسية لهذا العالم.
الأمريكي ماثيو شيليان يقدم هو الآخر من خلال عمله (همس) مجسماً ينتسب في شكله العام إلى البناء الهندسي، ولكنه يستخدم خامة الورق وفق تصاميم توحي بأبعاد متعددة مدهشة.. يقول ماثيو: «بوصفي مهندساً مختصاً بالورق، فإن عملي يقوم على الوسائط المطبوعة وفنون الكتاب والتصميم، وبدءاً من طية أولية أقوم بها للورقة، فإن خطوة واحدة تنقل الطاقة إلى طيات أخرى لاحقة، والتي تتجلى في نهاية المطاف في رسوم وأشكال ثلاثية الأبعاد».
هو يقوم بتشكيل منحوتات حركية، كما يستثمر طاقة اللون، في أشكال هندسية زخرفية بارزة، وهو في عمله ذاك، يعترف بحجم الدهشة التي يمكن أن تشكلها تصاميم الورق في عين المشاهد، وانطلاقاً من هذه النقطة، يمرر ماثيو فكرته على شكل رسالة مفتوحة على التأمل والتذوق الفني، وقراءة المقترح الشكلي في ضوء ثقافة جديدة ومفتوحة على المطلق.
الهندسة الورقية بالنسبة له تشكل استعارة حقيقية للمبادئ العلمية، وهو بالإضافة لكونه فناناً ومصمماً، فهو مؤسس استوديو مبادرة الفنان في مدينة «آن آربور»، في ولاية ميتشجان، وهي مدينة جامعية صغيرة، وهو مهتم بالرسومات والتركيبات ذات الحجم الكبير، ويتعاون مع كبار العلماء بجامعة ميتشجان لتقديم تركيبات تفيد في علم النانو، وهو علم الجزئيات متناهية الصغر، وهذه التقنية تعتبر أحد مجالات علوم المواد التي تستخدم الفيزياء، والهندسة الميكانيكية والهندسة الحيوية والهندسة الكيميائية.
الفنانتان الإسبانيتان مانويلا فالتشانوفا وجوليا ميدينا من محترف «كيرالت سواو إيستودي» قدمتا عملاً تركيبياً محدد المكان، بعنوان (العودة إلى الأصل)، وهو عمل استوحى بحسب ما أوضحت الفنانتان، تلك الإشارات التي ثبتها عمال مسلمون أثناء عملهم في مشروع بناء، لتحدد الاتجاه الجغرافي لمدينة مكة المكرمة، وقد رأت الفنانتان في هذا الفعل تعبيراً عن الإيمان العميق والقادر على خلق حالة روحية لا متناهية.
هنا، قدمت كل من مانويلا فالتشانوفا وجوليا ميدينا، تركيباً فنياً مشحوناً بالرمز و«الأثر» تماشياً مع شعار مهرجان الفنون الإسلامية، هو رمز لثنائية الزمان والمكان في الفن الإسلامي، ويتكون من شبكة من الألواح العاكسة التي تدور على محور مركزي.
عندما يبدأ المشاهد بتحريك الألواح في التركيب الفني، تحدث حالة من الجذب المتجدد، وهنا، يتولد موقف شعوري أو شخصي، يعزز حالة التواصل تجاه بنية وزمانية هذا التركيب.. هو تجربة عميقة غير مادية، تعزز من فرص التأمل الروحي.
(المقرنص الشفاف) هو عمل تركيبي للفنانة الإسبانية كريستينا بارينو، صنعته من مادة متينة بغرض اكتشاف مفهوم الشفافية في المقرنص، والمقرنص تصميم معماري إسلامي معروف، يتكون من مادة ناتئة أو بارزة وذات بنية سميكة من الحجر أو الخشب، حيث قامت بارينو بهذا التصميم الذي يولد عند المشاهد مظهراً من مظاهر الهشاشة وضعف البنية رغم متانته الهيكلية.
في هذا العمل تسعى الفنانة لإعادة تفسير المقرنصات، وتحليلها للوصول إلى جوهرها، واكتشاف عناصرها الجمالية كمنحوتات زخرفية تجريدية تحاكي الطبيعة بمنهجية فكرية ذات مكانة خاصة «صوفية» في العمارة الإسلامية، حيث قدمت نمطاً مبسطاً من المقرنصات بخلايا سداسية، تشكل هيكلاً لقبة ثلاثية الأبعاد، وقد عززت من خلال هذا التركيب قدرتها البارعة في التصميم لتوحي بالشفافية والدهشة، وأكثر من ذلك، ما ينسجه هذا العمل من علاقات بين أجزائه من جهة، وما يولده في المتلقي من شغف لاكتشاف ما هو متوارٍ خلف الشكل من جهة أخرى، وبالتالي تحفيز «ميكانزمات» التأمل الروحي العميق.
الشارقة: عثمان حسن