هاتان شقيقتان حياتهما في اندماجهما. في النبات هما شجرتان في جذع واحد. بلغة المتصوفين، هما روحان في جسد. ليستا توأمين سياميّين. كلتاهما تستوجب وجود الأخرى. بهما معاً تنهض الدول وتنمو، يصبح أصلها ثابتاً وفرعها في السماء. إنهما: الاستراتيجيّة الثقافيّة، والثقافة الاستراتيجيّة.
يرسم القلم مشهدين لعواقب شقّ الطريق بإحداهما دون الأخرى. في القرن العشرين، شهد العالم العربيّ مشروعات ثقافيّة رائدة، كانت لها آثار إيجابيّة من الماء إلى الماء، كانت لمصر فيها أدوار البطولة، كما كانت لبلدان عربية عدّة ألوان من التميّز. لكن غياب شموليّة الاقتدار في سائر الميادين جعل تلك الحركات الثقافية تفقد ريادتها وتضمحلّ. لقد سادت القيم كأفكار، لكنها لم تجد ما يجسّدها في الحياة العامّة كنهضة تنمويّة شاملة. المشهد الآخر يتمثل في الولايات المتحدة، التي وضعت في بداية القرن العشرين، قبل الحرب العالمية الأولى، ثقافة استراتيجيّة محورها: كيف نسيطر على العالم بلا منازع؟ كيف نلغي المنافسين؟ كيف نجعل العالم سوقاً استهلاكيّة لمنتجاتنا إلخ؟ قام المشروع وتغوّل، ولم يضع في الحسبان استراتيجيّة ثقافيّة تقود العالم من خلال الاقتناع بقيم حضاريّة تترك متنفساً لطموح الشعوب إلى العيش في كوكب متوازن. هل تستطيع إجراء استفتاء يكشف لها نظرة الشعوب إلى سلوكها في السياسة الخارجيّة؟ الاستبداد ليس جديداً في تاريخ البشريّة، لكنه كان دائماً ينتهي إلى خيبة آماله اللّا مشروعة.
الاستراتيجيّة الثقافيّة ضرورة بنيويّة، لأنها تستنفر مكوّنات الهويّة وعناصر القوّة الإيجابيّة في الميراث، بعقل ناقد مُغربل عصريّ إنسانيّ، وتأتي الثقافة الاستراتيجيّة لترسم الأهداف التنمويّة الشاملة طبقاً لمخططات زمنيّة محدّدة واضحة المعالم، تحسب حساباً للأخطاء المحتملة، وتتوقع المفاجآت وتضع لها الخطط البديلة. الاستراتيجيّة الثقافيّة تسخّر الموروث الثقافيّ لتأهيل العقول للانطلاق بفضل الطاقة الروحيّة العامّة، هي التي تخلق حالة التأهّب والاستعداد، وإلاّ ظلت الأدمغة مجرّد أقراص صلبة لتخزين المعلومات من دون تقدير قيمة محتواها وقدرتها على الحياة، وتأتي الثقافة الاستراتيجيّة وتطرح برنامج الحاضر والمستقبل، هنا تتسلّم الإدارة الفائقة مقاليد المشروع، وحسابات الجغرافيا البشرية والاقتصاديّة الموزعة على الجغرافيا الطبيعيّة بمساحتها وثرواتها وكل طاقاتها وما يتطلبه استثمارها من علوم وتقانة. الاستراتيجيّة الثقافيّة بأبعادها الإنسانيّة العادلة، هي التي تحفظ التوازن وتجعل نموّ القوّة عادلاً ومقنعاً. تصبح القيم قانوناً، والقانون قيماً أو لا يكون. ذلك هو الفارق بين الحضارة والمدنيّة القامعة.
لزوم ما يلزم: النتيجة المهاتميّة: كم يمكن أن يستمرّ نظام عالميّ قائم على حراب البنادق؟
abuzzabaed@gmail.com