تسعى الرواية «الحديثة» إلى نوع من التمرد والخروج عن التقليدي والمألوف في التناول، فهي متعددة الدلالات، تحمل في كثير من جوانبها، عوالم غائمة ومحجوبة، لا تفصح عن نفسها، وهنا يمارس القارئ لعبته المفضلة مع النص، وهي الرغبة في الاكتشاف، فيجنح نحو البحث عما لم يصرح به النص وتركه للتأويل، فالنص يحجب أسراره في انتظار تنقيب قارئ ذكي، وربما ذلك صار طابعاً للرواية الحديثة، والتي تثير الأسئلة الوجودية المتعلقة بالإنسان وصراعاته وآلامه، وتحمل موقفاً نقدياً تجاه الواقع بلغة جديدة تميل إلى الغموض، مليئة بالأفكار، في سعيها نحو تناول تشظي الوجود الإنساني في العالم الحديث.
وقد عود كثير من القراء أنفسهم على البحث عن الرموز والتعبيرات المشفرة داخل النص الروائي، فلم يعد النص الذي لا يحمل تلك الرسائل جذاباً.
ولعل من أكثر الروائيين، في العصر الحديث، ميلاً نحو المحتوى الفكري في أعماله الروائية هو الفرنسي من أصول تشيكية ميلان كونديرا، حيث تنفتح نصوصه على الأسئلة الوجودية، غير أن كونديرا يرفض تلك الأصوات النقدية التي تطلق عليه صفة الفيلسوف، ويرى أن الروائي لا يملك فلسفة متماسكة من خلال أعمالهم الروائية، فما يوجد هو عبارة عن كتابات تُعبِّر عن تمارين ذهنية، تبرز جوانب من المفارقات، لكنها لا تصنف كيقينيات فلسفية، ولكونديرا موقف مناقض تماماً عما يروج له من وجود روايات فلسفية، فهو يرى أن الفيلسوف عندما ينتحل صفة الروائي يصبح محض متلاعب، غير أن هذا لا ينفي وجود الصوت الفلسفي بكثافة داخل نصوص كونديرا، على ذات النحو الذي نجده عند روائيين رواد أمثال: تشيخوف وكافكا وسارتر، فجميعها تستخدم الشكل الروائي من أجل فكرة، لكن هذا الموقف لا يعبر عن فلسفة، فالرواية لها اشتراطاتها السردية، والتي تعلي من شأن الحمولة الجمالية في السرد واللغة، بحيث يكون لها منطقها الذاتي، ومن جانب آخر فإن كثيراً من الروائيين يؤكدون هذا التلاقي على نحو ما فعل ألبير كامو والذي يرى أن الروائيين العظماء فلاسفة عظماء.
يبدو أن القارئ الآن بات شغوفاً بلحظة التقاء السرد بالرؤية الفلسفية أو الفكرية حتى وإن جاءت شذرات في متن النص الروائي، فهي كافية لطرح أسئلة الراهن في عصر يشهد تزلزل كثير من القيم، وبات الإنسان فيه شغوفاً بالبحث عن مصائره، وبالإجابات عن الأسئلة الوجودية، وبالتالي صار للرواية التي تحرض على البحث مكاناً كبيراً لدى المتلقي.
alaamhud33@gmail.com