Quantcast
Channel: صحيفة الخليج | الخليج
Viewing all articles
Browse latest Browse all 56024

السلطة بين قشرة التحديث ونواة الحداثة

$
0
0
د. نسيم الخوري

بلمح البصر وأنت على الحافة تخطو نحو عامٍ جديد، وفي زمن الإعياء العربي، قفزت عين العالم نحو الدماء في إيران، حيث ننظر إلى الدم السوري والعراقي طريّاً لم يركن إلى السلام وإزالة الركام وإعادة الإعمار.
قد تضمر الدهشة لمن يفلش أمامه تاريخ أرض لطالما كانت كما مثلّث برمودا، وما زالت جاذباً أرضياً وسماوياً لحضارات وشعوب مصّت عظام بعضها البعض بالتداور والتناوب ثمّ طحنتها منذ الفراعنة والفرس والرومان والإغريق واليهودية والمسيحية والإسلام والصليبيين والمغول والتتار والبربر والأتراك، وتداخلت عبرها الهجرات الشركسية والقوقازية والأرمنية والتركمانية والكردية والإلبانية...إلخ... كي نحافظ على المساحة المخصصّة لنا في هدأة الخليج العربي.
قد يستحيل التفكير، في التعرّف إلى زمن/ مستقبل نهائي لبلاد العرب والمسلمين وهم يعبرون بخياراتهم الطبيعية أو بالقوّة الخارجية المضائق الوعرة الكثيرة عبر هذه الألفية الثالثة الصعبة. هناك تحوّلات هائلة في الشكل السريع الذي يجتاح العالم ويجعله مساحةً تتوق إليه الشعوب وتقتنيه وتستهلكه في العمران وأنماط العيش. تضاهيه في القشرة الخارجية، ونادراً ما تتحدّاه في امتلاك النواة النووية، لكنها تبقى تفترق عنه فلا تتجاوزه وتعصى عن فهمه وفكّ مراميه وتجربته وتراكم خبراته ومطامحه بما يولّد فجوات هائلة بين حداثة المجتمعات وتحديثها أي بين النواة والقشرة الخارجيّة واصطلاحاً بين الشرق والغرب.
التحديث ظاهرة تعجّ بها البلاد العربيّة التي لا عقد لها مع الغرب، وتتحضّر له البلاد المدمّرة بـ«الربيع العربي»، حيث لا فرق بين بلدٍ عربي وآخر سوى في مقاربة التحديث والحداثة معاً. كلاهما متلازمان ويستحيل فصلهما. تأتي النتيجة صادمة قطعاً للأنظمة؛ لأنها تدفع بشعوبها للقفز فوق الحداثة طلباً لتذوق الحريّة والعدالة، لأنّ الحداثة نواة الحريّة الكاملة المشابهة للحلم والشعر.
لم يكتف نابليون بونابرت بالجادات الفسيحة والجنائن والقصور التاريخية لتحديث فرنسا، بل أطلق بذور الثورة الفرنسية في العقل البشري بحثاً عن الحريّة والإخاء والمساواة والعدالة التي كان قد جهّزها له مفكرو عصر الأنوار.
يوقظ التحوّل الشكلي لدى الشرقيين الدهشة العارمة لسهولة اقتناء «الحضارة» أو الرفض الكامل لدى الآخرين. كان الشكل ميدان التحوّلات الطفيفة، لكنّ المضمون بقي صلباً، ولكنّ تحوّلات الشكل تجعل من التغيير حاجةً للسير في العصر.
الحقيقة، أنّه مهما تناقضت المواقف من هذه التحوّلات السريعة، فإنّ كلّ كلام في التحوّل والتغيير يشدّنا بالضرورة نحو الغرب الذي يحرّض المجتمعات الأخرى، لكنّه لا يساعدها دوماً على النهوض، بقدر ما يغذّي ردود أفعالها في العودة إلى الدين للاحتماء به، ليفجّرها من الداخل كما نتابع اليوم خطى «الربيع العربي» نحو بلاد فارس.
تنعكس ظاهرة التحوّل في الشكل إلى مستويات متعدّدة:
1- المستوى العربي العام: وتبرز فيه أزمات التفاعل مع الآخر المحرّض أو المحوّل أو الغريب مهما كان إنساناً أو لغةً أخرى أو آلةً جديدة مبتكرة أو «حضارة» بمعناها الشامل. وتصبح العلاقة مع هذا الآخر مسنودة إلى استيراد مكتشفات الشعوب الأخرى لا على فهم أو مشاركة أو إبداع أو خلق تساعدنا في الإجابة عن أسئلة الإنسان العربي وحاجاته. إنّها علاقة استيراد، إفراغ، اقتباس لا علاقة تصدير وامتلاء وخلق. علاقات انفعال وردود أفعالٍ واعتداد لا علاقات تفاعل وهضم وعلم ومشاركة، وهذا ما يؤدّي، في الغالب، إلى حيرة المجتمعات العربية وتململها.
2- مستوى الفرد، تبدو النتائج متشابهة. إنسان عربي موصوم بصورة نمطية قشرتها سميكة. متهالك على القداسة وكأنّه لم يصب بالشك والبحث ولا خلاص له سوى بالتوفيق بين جيلين مزدوجين: القديم والهجين والجديد.
وإذا ما غاب الشكل وتهدّد الجوهر بغزو قوي غربي عسكري، يصبح الفرد قابلاً للتحوّل الكامل إلى حضن البطل، يحترق فيه كلاميّاً فيتناثر. وإذ يذوي البطل أو يقتل أو تنقلب الدنيا الخارجية عليه، يتحوّل إلى مخلّص نفرّغ فيه هموم العجز عن التغيير أو يرونه شيطاناً وعميلاً ظالماً وكافراً من صناعة الغرب.
3- مستوى التعامل مع الجوهر: وهنا نقع في إمكانيّات التحوّل والتطوير والتجديد من الداخل لا من القشور، بما يتجاوز كل البريق الذي تحمله الأشكال التحديثية للمجتمعات العربيّة. تطاول هذه الإمكانيات شرائح متوفّرة ومتنامية في العالم العربي، لكنها تبقى أسيرة دوائر العلاقات الرحمية مع الفكر الديني. إنّ مجمل «الثورات» التي شهدها العرب بقديمها وحديثها وصولاً إلى «الربيع العربي» لم تصل أو تقدّم التحوّل اليسير أو تطاول الجوهر أو تحكّ قشرته الخارجية. هناك اختلاط جذور هائل بين العقائد والإيديولوجيا والدين. غالباً ما يتكفّل الدين بشكلٍ خاص بقوانين التكيّف الطارئة أو المستجدّة والتي تقتضي التوفيق والقبول الدائمين بين المفاهيم التاريخية الحديثة والرؤى الاجتهادية التي تتجاوز المفاهيم وتختنزها في الزمان المقبل بحمولاته الفكرية الجديدة.
لا يعني امتلاك القشرة التمكّن من النواة. أنت تأكل الثمرة بقشرتها ونواتها أو بذورها وقد ترميهما، لكنّ النواة غالباً ما تختزن الحياة إذا ما رعيتها أنت قادر عبرها على المساهمة في خلق الأفكار وتوليد الأجيال والمخترعات الجديدة اللامتناهية في قدريّة الصداقة بين الحياة والموت.

drnassim@hotmail.com


Viewing all articles
Browse latest Browse all 56024

Trending Articles



<script src="https://jsc.adskeeper.com/r/s/rssing.com.1596347.js" async> </script>