Quantcast
Channel: صحيفة الخليج | الخليج
Viewing all articles
Browse latest Browse all 56024

مستقبل ثورة يناير

$
0
0
عبد الله السناوي

بقدر الآمال التي حلقت في ميدان التحرير قبل سبع سنوات تتبدى الآن حيرة التساؤلات في المشهد العام.
هل ماتت ثورة «يناير» بالسكتة التاريخية وانقضى أثرها إلى الأبد.. أم أننا مازلنا في منتصف العرض التاريخي والمستقبل أمامها؟
التعجل بالأحكام الأخيرة قبل أن يأخذ التاريخ وقته وتبلغ التفاعلات مداها، خطيئة سياسية متكاملة الأركان.
لم تكن «يناير» أول ثورة تختطف مبكراً، أو تجهض مؤقتاً، فقد لقيت الثورة الفرنسية المصير ذاته، دون أن تفقد قدرتها على الإلهام حتى حققت أهدافها بعد رحلة معاناة طويلة ومؤلمة.
الكلام المبكر عن انقضاء أثرها فيه إنكار لدروس التجربة المصرية، على مدى مئة عام عرفت التراجعات قبل النهوض من جديد. في ثورة (١٩١٩) سقط نحو (٨٠٠) شهيد وأصيب (٦٠٠) جريح. تلك الأرقام تقارب بصورة مدهشة أعداد الشهداء في ثورة «يناير»، لكن أرقام الجرحى والمصابين تتضاعف فيها.
لم تكن وسائل الإعلام الحديثة قد نشأت بعد، ولا عرفت مصر الإذاعة وقتها.. كانت الصحف الوطنية محدودة التوزيع والتأثير في مجتمع تتفشى فيه الأمية، لكنه قرر أن يثور وأن يدخل القرن العشرين من بوابة الاستقلال والدستور.
لم تكن هناك في ذلك الوقت منظمات حقوقية، أو نقابات مهنية تدافع عن حرية التعبير وحق التظاهر السلمي، لكنه مارس ذلك الحق طلباً لامتلاك مقدرات بلاده.
بالقدر ذاته، في عصور مختلفة وسعت «يناير» مجال المشاركة السياسية إلى حدود غير مسبوقة تحت ضغط المليونيات ووسائل الاتصال الحديثة، وطرحت قضية العدالة الاجتماعية بصورة جديدة على رأي عام لم يعد يتقبل أو يستسيغ تنكيل السلطات بالمواطنين وإهدار الكرامة الإنسانية.
الإنجازات الفعلية ليست كبيرة بالنظر إلى حجم التضحيات التي بذلت، لكن شيئاً ما، تحرك في عمق المجتمع يصعب أن يعود مرة أخرى إلى المربع رقم واحد.
في ثورة (١٩) كان حجم التضحيات مقيساً بحجم السكان كاشفاً لعمق تجربتها وصلابة شعبها الذي خرج طالباً الاستقلال والدستور، غير أن مسارها السياسي ارتبك ونتائجها تعثرت لأربع سنوات كاملة حتى وضع دستور (١٩٢٣). وقد جرى بعد ذلك الالتفاف على الحكم الدستوري وإقصاء حزب «الوفد» عن السلطة لأغلب سنوات ما بين ثورتي (١٩١٩) و(١٩٥٢).
التحدي نفسه في أوضاع جديدة يعترض ما طالبت به «يناير»، حيث إنجازها الرئيسي دستور (٢٠١٤)، الذي يعد من أفضل الدساتير المصرية على مدى العصر الحديث. لايمكن الادّعاء أن هناك احتراماً للدستور، أو إنفاذاً لأحكامه.
ثورة «يناير» تعني اليوم: الدفاع عن الدستور قبل أي شيء آخر، فجوهره الانتقال إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة تحفظ الحريات العامة وتصون حقوق المواطنة.
كانت ثورة (١٩) بنت عصر ما بعد الحرب العالمية الأولى، وما طرحه من مبادئ تتعلق بحق تقرير المصير.
هكذا كانت ثورة يوليو بنت عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية، ودعوات التحرر الوطني، التي شملت العالم الثالث بأسره، ومطالب العدالة الاجتماعية، التي سادت مصر في أربعينات القرن الماضي.
بالمعنى ذاته، كانت «يناير» بنت عصر ثورة المعلومات والاتصالات الحديثة، وهو عصر أفضت وسائله إلى اعتقاد راسخ لدى الأجيال الجديدة بأن مصر تستحق نظاماً أفضل، وهي الأجيال ذاتها التي تقدمت مشهد الثورة وأسبغت عليه مظهراً حديثاً أبهر العالم، قبل أن يتم التشهير بها إلى حدود التحطيم الممنهج.
بأي رؤية منصفة؛ ف«يناير» تجربة كبرى افتقدت إلى مقومات أساسية تمنع اختطافها مرتين.. الأولى، من جماعة «الإخوان».. والثانية، من الماضي الذي ثارت عليه.
لم تبرز من صفوفها قيادة لها قوة المرجعية، تحدد الأولويات وتقود التحركات، فأصبح كل شيء خاضعاً لانفعالات اللحظة وعشوائية التصرف. كان ذلك عكس ما جرى في ثورة (١٩) حيث برزت شخصية «سعد زغلول»، الذي تمكن بقدراته السياسية والخطابية أن يعبر عنها وأن يكون رمزها الأكبر.
وفي عام (١٩٤٦) خرجت مظاهرات حاشدة أخرى من أجل مطلب الاستقلال أفضت إلى شهداء جدد من بينهم (٢٣) شهيداً في ميدان «الإسماعيلية»، وهو الميدان ذاته المعروف الآن باسم «التحرير»، وأصيب في هذه الموقعة (١٢١) جريحاً.
كانت التضحيات، التي بذلت عام (١٩٤٦)، إيذاناً بميلاد جيل جديد، وهو واحد من أهم الأجيال في تاريخ مصر المعاصرة، حمل السلاح في منطقة قناة السويس ضد قوات الاحتلال، ساهم في تطوير الخريطة الفكرية والسياسية وقام بثورة جديدة في يوليو (١٩٥٢).
تصدر طليعتها هذه المرة «الضباط الأحرار»، وهي واحدة من أعظم الثورات المصرية وأبعدها تأثيراً.
وقد قادت بزعامة «جمال عبد الناصر» حركات التحرر الوطني في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وقامت بأوسع حركة تغيير اجتماعي في التاريخ المصري كله، وبرز الدور الإقليمي لمصر في عالمها العربي، أصابت وأخطأت، ولكن إنجازاتها كانت ظاهرة ولا مثيل لها في قضيتي الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية.
غير أن ثغرات نظامها السياسي الفادحة خذلت الأحلام الكبرى التي تبنتها، وجرى الانقضاض عليها من «كعب أخيل» على ما تقول الأسطورة الإغريقية من نقطة الضعف عند البطل التراجيدي.
«يناير» تبنت أهداف «يوليو» في العدالة الاجتماعية، لكنها لم تحدد ما تقصد، وركزت على قضية الديمقراطية، وهذه إحدى ثغرات «يوليو»، لكن بلا دليل عملي يمنع توظيف الغضب لغير قضيته ويحول دون أي ارتدادات حادة.
تراجيديات الثورات بالآمال العريضة التي تسقط من حالق لم يمنع في أي وقت اتصال فعل الحركة الوطنية جيلاً بعد آخر للتصحيح وتعلم الدروس، وهذا ما يجب أن تحتذيه الأجيال الجديدة.


Viewing all articles
Browse latest Browse all 56024

Trending Articles



<script src="https://jsc.adskeeper.com/r/s/rssing.com.1596347.js" async> </script>