حين كتب المفكر الراحل جمال حمدان كتابه «المدينة العربية»، لم يكن أخطبوط الاستيطان السرطاني في الأراضي الفلسطينية، وفي الضفة الغربية بشكل خاص، قد بلغ النطاق الذي هو عليه اليوم، وما زالت شهية المحتلين نحوه مفتوحة، بل وإلى ازدياد، مستقوين في الآونة الأخيرة، بنهج إدارة الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب.
مع ذلك، فإن جمال حمدان في رؤية استشرافية هو قمين بها حذّر من هذه السياسة الاستيطانية، منطلقاً من نموذج الاستيطان الذي قامت به «إسرائيل» في الأراضي الفلسطينية التي فرضت عليها دولتها في عام 1948. ولعل حمدان هو من القلة الذين وصفوا ما قامت به «إسرائيل» في فلسطين ب«الاستعمار الصهيوني»، الذي قال عنه بأنه ليس استعماراً سكنياً بالمعنى المعروف، وإنما استعمار مركب: ديني، عنصري، سكني، وإنه ليس احتلالاً وإنما إحلال، وبالتالي فإنه الأخطر بين كافة صور الاستعمار التي عرفها العالم العربي.
وبالنظر إلى أن المدينة العربية كانت موضوع بحثه هذا، فإنه توقف أمام التشويه الذي قامت به «إسرائيل» للمدن الفلسطينية، وهي مدن عريقة ذات مكانة ودور مشهود لها عبر التاريخ، وأتى هذا التشويه عبر خلق مدن جديدة، دخيلة، تطورت إما عن قرى قائمة أو مستعمرات أنشأتها سلطات الاحتلال، أو حتى من حيث لا شيء مثل نهاريا وناثانيا وهرتزليا.
وتوقف جمال حمدان بصورة خاصة أمام «تل أبيب» التي بدأت كضاحية يهودية لمدينة يافا الفلسطينية العريقة، ولكنها، وبفعل مخطط مدروس نفذ بدأب، سرعان ما فاقتها حجماً وكادت أن تبتلعها، لتصبح أكبر ما وصفه ب «مدن الاستعمار الصهيوني الجديدة».
ما يجري في الضفة الغربية اليوم من توسع مهول في بناء المستوطنات التي تواصل قضم الأراضي الفلسطينية، وتقطيع أوصال الضفة بهذه المستوطنات التي تزحف على مدن وبلدات وقرى وحقول الفلسطينيين، هو في جوهره تكرار للنموذج الذي جرى اتباعه في الأراضي التي احتلت في عام 1948، والغاية هي نفسها: بسط نفوذ دولة الاحتلال على أوسع ما يمكن من أراضي فلسطين، وتأسيس أمر واقع لا يعود بالوسع بعده قيام كيان فلسطيني مستقل حتى لو كان أقل من دولة، وهو المخطط الذي يجري المضي فيه بأسرع الوتائر استفادة من الوضع الصعب الراهن في المنطقة، ومن الدعم الأمريكي السافر.
وهنا أيضاً يصحّ التوصيف الذي ذهب إليه جمال حمدان لما يجري، فهو ليس احتلالاً يكتفي ببسط سيطرته على أراضٍ وسكان، وإنما هو إحلال لسكانٍ جدد، ينازعون أهل هذه الأرض على ملكيتها، تمهيداً لاقتلاعهم منها.
الحق أن جمال حمدان وهو يقدم هذا التوصيف الدقيق لم يفته أن يؤكد أن تصفية هذا الإحلال هو التحدي الأكبر للتحرير العربي، مذكراً بما فعله العرب حين نجحوا في تصفية مدن الاستعمار السكني في مناطق أخرى.
madanbahrain@gmail.com