قائد تاريخي دعا مرة إلى أن يتحلى المرء بعقل بارد وقلب حار. في هذه العبارة المفعمة بالحكمة دعوة إلى المزواجة بين الحماس والتفكير العقلاني، فلا يطغى أحدهما على الآخر، فيأخذ منا الحماس مأخذه، ونحن نتخذ قراراتنا، فلا نعود نبصر ما حولنا من تعقيدات، ليجرنا حماسنا إلى ما لا تحمد عقباه، فنندم في الوقت الذي لا يفيد فيه الندم على ما قيل.
وبالمقابل ألا تطغى الحسابات، فنقع في فخ التضخيم منها، ونضحي بما يلزمنا من عزيمة وحماس لقهر الصعوبات التي لا بد من قهرها كي نظفر بما نطمح إليه، ثم ندرك بعد حين أننا استسلمنا لما كان يتعين علينا أن نجابهه بعزيمة، وأضعنا فرصاً محققة، فنندم، أيضاً، في الوقت الذي لا يعود فيه الندم مفيداً، فالحياة ليست سخية في منح الفرص، فمن أضاع فرصة سانحة، قد لا يعوض هذا الضياع، فالفرصة الضائعة لن تتكرر.
القائد الذي دعا إلى الجمع بين العقل البارد والقلب الحار، كان رجل سياسة، وبالتالي فإن دعوته تتصل تحديداً بعالم السياسة، ولأنه رجل سياسة فإنه كان يتحدث عن العقل الجمعي، وكذلك القلب الجمعي، لا عن عقل فرد بعينه، ولا عن قلبه.
لكنها دعوة تصح على مجالات الحياة الأخرى، وتصح علينا جميعاً كأفراد. نحن أيضاً مدعوون لأن تكون عقولنا باردة، أي تفكر بهدوء وروية، وتحسب الأمور بتأن، وتُقلبها على أكثر من وجه، قبل الإقدام على أي قرار أو خطوة، لكننا مدعوون، في الآن ذاته، إلى أن تكون قلوبنا حارة، فالعقل البارد سيصبح صقيعاً متجمداً إن لم يسنده قلب حار، هو كناية عن طاقة الحماس والعزيمة وقوة الإرادة والإقدام حين يتعين هذا الإقدام، وهذا القلب الحار هو نفسه مدعو لأن يحصن ببرودة العقل كي لا يأخذنا إلى التهور والمغامرة.
حتى الآن حديثنا لا يزال في المجاز، فنحن لا نتحدث عن الدماغ المفكر في رؤوسنا، ولا عن القلب الذي يضخ الدماء في شراييننا، وإنما نتحدث عن منظومة معقدة تحكم السلوك البشري العام، وتسيره. لكننا نريد الخروج من المجاز إلى المحدد والملموس. لنلاحظ أنه ليس بالعقل وحده يحيا الإنسان. وهذا قول صحيح بصورة عامة، ولكن المغزى هو أنه ليس العقل وحده، مهما كان عليه من نبوغ، هو من يحكم سلوكنا منفرداً، لنفطن إلى أهمية النفاذ إلى مناطق النفس المجهولة، فالعقل لا يحيط بكل الجوانب في سلوكنا، ولا ينفرد بتقرير كل أوجه هذا السلوك، خاصة منها تلك المتصلة بمشاعرنا وهواجسنا، وبما تنطوي عليه نفوسنا من طبقات قد لا نبلغها نحن أنفسنا، وفي هذا يحضرنا قول الإمام علي ابن أبي طالب: «وتحسب أنك جِرمٌ صغير/ وفيك انطوى العالم الأكبر».
madanbahrain@gmail.com