عبد اللطيف الزبيدي
هل يجوز تأجيل هذا المبحث الحيويّ؟ من إشكاليّات العقل العربيّ توهّمه أن التاريخ أرشيف مرصوف على الرّفوف، يستفيد منه المشتغلون بالماضي ومراكز البحوث والدراسات، في حين تنطبق عليه مقولة أينشتين، وقد قالها في الفيزياء: «لا وجود للماضي والحاضر والمستقبل، إنها كلّها معاً»، مثل ثلاثة في واحد «قهوة، سكر وحليب».
نزار أخطأ مرّتين في ثماني تفعيلات: «لا وقت لدينا للتاريخ فنصف حوادثه تزويرْ»، مرّة لأننا كائنات تاريخيّة، كلّ ما فينا، ماديّاً ومعنويّاً، هو ماضٍ مستمرّ. أين أنت من خليّتك الأولى التي تقاسمت تصاعديّاً؟ هيدروجينك يعود إلى الدقائق الأولى من الانفجار الكبير (13.7 مليار سنة)، وعناصرك الثقيلة (الأوكسجين، الحديد، الكربون، الآزوت إلخ) صنعت في النجوم العملاقة، فحلّت في شمسنا ثم في كوكبنا. الخطأ القبّانيّ الآخر، هو حسن ظنه بالتاريخ، يرى أنّ نصف حوادثه فقط تزوير. أمّا الحاضر فنحن فيه كائنون، وأمّا المستقبل فهو ما ينشئه الأحياء اليوم، فضلاً عن أن علم الأحياء والوراثة، يقدر على التدخّل الآن عبر تعديل المورّثات ليسلم الجسم مستقبلاً من أدواء كانت مندسّة كامنة له بالمرصاد إلى حين، فنحن مستقبل الماضي. حاضرنا سيقرر مصير الأبناء والأحفاد. هشاشة مناهجنا اليوم يجني هزالها نسل الغد.
الكارثة هي أن الأنظمة السياسيّة الغافلة والغطرسة الدوليّة، فرضت على شعوبها ألاّ تبحث شؤون زمانها إلاّ عندما تصير ماضياً بعيداً. الحدّ الأدنى ثلاثة عقود، على غرار أرشيفات الخارجية البريطانيّة. الطريف هو أن علماء اللغة القدامى قتلوا فعل «كان» العربيّ الأصيل. لقد كان مثل «كان» في الآراميّة، بمعنى «تو بي» في الإنجليزية، و«آتر» في الفرنسية. بقي المعنى في «وكان الله عليماً حكيماً»، التي أسموها «كان الاستمراريّة». تعال حقّق في قتل كان: «بأيّ ذنب قتلت»؟ ذلك جعل كينونتنا تعيش في الماضي، ووجودنا تراثيّاً.
ثمة ميادين وُضعت خلف قضبان طبائع الاستبداد. الفلسفة توزّع دمها بين الأنظمة والأحزاب، غدت هي معامل تربية دواجن الفكر والأفكار، والتاريخ أضحى يكتبه الإعلام. خذ تاريخ الحقبة التي مضت من قرننا هذا، كم مرّة خاطب الأقوياء العالم العربيّ بالعصا والفلقة؟ العراق وخدعة أسلحة الدمار الشامل، التي «اعتذروا» لأنهم لم يعثروا عليها بعد خراب ألف بصرة. ليبيا «اعتذروا» لأنهم لم يتصوروا أنها ستمسي دولة في الغابرين. سوريا باتت فريسة تنهشها سباع العالم. من سيكتب تراجيكو ميديا تاريخ «الربيع الخِربيّ»؟ كتابة هذا التاريخ، إذا صار لنا مؤرخون يحترمون أجيال العرب، ستسدّ فراغ روائع الخيال العلميّ. سيبدعون جنساً أدبيّاً جديداً: اللامعقول الواقعيّ، الواقعيّة اللامعقولة، السرياليّة العقلانيّة.
لزوم ما يلزم: النتيجة التعجيزيّة: متى يحترم العرب التاريخ حتى يحترمهم التاريخ؟
abuzzabaed@gmail.com