ينظر إلى الشاعر الفرنسي جاك بريفير «1900 - 1977» بوصفه الأكثر انتشاراً على مستوى القراء، بما حملت قصائده من انسيابية وتنوع، فقد تخلى عن الوزن لمصلحة الفكرة والصورة، والأهم من ذلك كله نزوعه الإنساني، فقد عرف عن بريفير ممارسته الأدب بحرية بلا زخرفة ولا تزيين، كما اقتربت أشعاره من المفارقة والدعابة والسخرية والتداعي الحر.
وبريفير، يدين بتجربته الشعرية للفترة الرومانسية، ما بين أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وهي الفترة التي شهدت انفجاراً في المدارس والحركات الأدبية، كالحركة الدادائيّة، ورمزها الأشهر السويسريّ تريستان تزارا، ومن بعدها الحركة السوريالية، ورموزها أندريه بريتون وفيليب سوبو، ومن بعدهما: بول إيلوار ولوي أراغون.
غير أن ما يميزه، اقترابه من اللّغة اليومية بجرعة ساخرة فيها قدر من الطرافة، ويشترك معه في هذا التوجه ماكس جاكوب، ومثل هذه الخصوصية طبعت عدة حركات وأجيال في التجربة الشعرية الفرنسية، كشعراء الواقع الجديد، أو «العالم الجديد»، مثل: غيوم أبولينير وبليز سندرار، وشعراء الأناشيد الاحتفالية والكونية، كما هو عند بول كلوديل وسان جون بيرس، أو شعراء النزعة النقدية أو نزعة التعرية، كما لدى أنطونان آرتو أو هنري ميشو فيما بَعد، وشعراء التأمّلات الفلسفية مثل: رينيه شار وجاك دوبان.
وتتجلى خصوصية بريفير في غنائيته التي قربته من جمهور كبير، أقبل على قراءته بروح تواقة لاكتشاف جاذبية ما يكتب، وعمق ما يحس ويهجس على الدوام بالجمال والحب، ضد كل موجبات القسوة والبؤس والحرمان.
لنتأمل قصيدته الشهيرة «لكي ترسم طائراً» التي يقول فيها: ارسم في البداية قفصاً/ واترك بابه مفتوحاً/ ثم ارسم/ شيئاً مليحاً/ شيئاً بسيطاً/ شيئاً جميلاً/ شيئاً نافعاً/ للطائر/ الطائر قد يأتي سريعاً/ وقد يستغرق قرار مجيئه سنوات طوالاً/ لكن لا تيأس/ وانتظر/ انتظر إن اقتضى الأمر ذلك/ سنوات طوالاً/ وانتظر دخوله إلى القفص/ وعندما يكون هناك/ أغلق الباب وراءه بفرشاة/ أغلقه بكل هدوء/ ثم امح كل القضبان واحداً واحداً.
يقول غايثان بيكون: «إن شِعر بريفير هو شعر سهر ووعي، شعر دفاع عن الإنسان، فإن يكن شعر مهاجمة وعنف، فهو أيضاً شعر كرم وسخاء، إنه شعر صديق للعصافير، وللزهور والأولاد، وللنساء، شعر لا تضيع مقدرته على التمرد، عبر رمال المطالبة والتشكّي القاحلة، لكنها تمتزج بالنهر العريض الذي يجري نحو الحرية والفرح».
في كل أعمال بريفير كانت الغنائية أسلوبه المحبب، في نسج قصائد تحكي، وترسم علاقات دافئة بين مختلف الكائنات بروح تواقة إلى تدمير الأسى والرغبة العارمة في التفاؤل والإقبال على الحياة.
ohasan005@yahoo.com