هل يفكّر المثقفون في الجذور التي تقوم عليها الثقافة؟ أهل الثقافة يحصرونها عادة في الآداب والفنون ومدارسها ومذاهبها. هذه، على أهمّيتها، ليست سوى كرزة الكعكة. غالباً ما نرى الزي لا الجسد، والبدن لا الدماغ.
لماذا تتفاوت الثقافات، وتتمايز الشعوب والأمم وتتباين في طرائق الإحساس والتفكير؟ كيف اتفق وجود فوارق نجومية بين الأشعار العربية والصينية، الفارسية واليابانية، الهندية والألمانية؟ مزيداً من التخصيص: أليست الجذور البعيدة واحدة في العربية والآرامية؟ بلى، فكيف جاء شِعْرا اللغتين متباعدين على نحو هائل شكلاً، إن كان الاختلاف المضمونيّ أيسر تبريراً وتفسيراً؟ إذا كان الشعبان السوريّ والعراقيّ كلاهما أصوله آرامية، فكيف لا نجدهما متماثلين في الطبيعة النفسية وسلوكيات ردود الفعل، واللهجة العاميّة، ونبرات التعبير في الفصحى؟
مزيداً من التخصيص التوسعي: إذا كان للتصوف هيكل عظميّ روحيّ، فمن أين أتى التنوع الخارق في كسوته اللحميّة، فالتاويّة الصينية لا تشبه التصوف الإسلاميّ، والنرفانا الهندية لا تُناظر الأفلاطونية الجديدة؟ ما علّة المسافات الآفاقية في المشاعر والرؤى، بينما الإنسانية واحدة والأرض هي الأرض والكون واحد؟ الأوبرا إيطالية الأصل، فلماذا نرى فوارق خيالية بين الأعمال الأوبرالية في إيطاليا وألمانيا وروسيا وفرنسا وإسبانيا وحتى مالطا؟ (أو مالطا حتى!)؟ عليك أن تُقلع مبحراً في محيط لجّيّ إذا رمت الخوض في «واختلاف ألسنتهم».
المفارقات لا تحصى، فالقارّة الإفريقية أقرب إلى أوروبا منها إلى الشرق الأقصى، ولكنّ المقام الخماسيّ هو الرابط بين الموسيقى الصينية الأصيلة والقارة السمراء والجاز والبلوز، في أمريكا ابنة القارة العجوز.
في أيّ خضم تصبّ هذه الأنهار من الأسئلة والإيحاءات الموحيات؟ أسس الهويات الثقافية ومنابعها وينابيعها، هي في الحقيقة طبقات من الهويات المتراكبة المتراكمة عبر العصور. أحياناً مجموعة في واحد، على غرار صاحب «معجم البلدان»: ياقوت الحمويّ البغداديّ الروميّ. عندما تستمتع بأغنية «يا جارة الوادي» في نسختها الأصلية (محمد عبدالوهاب) قد يخفى عنك مرجع الموسيقى التركية «الأصيلة»، ويغيب عن غير العارف أن أجداد الأتراك جلبوا ذلك الطابع الأدائيّ من الصين ومنغوليا (العودة باستمرار إلى درجة ارتكاز المقام). الهوية الثقافية هكذا، هي كالشجرة، حين ترى الثمار على الأغصان لا ترى الجذور التي نما عليها الجذع فتفرّعت الأغصان التي ازدانت ببديع الثمرات.
لزوم ما يلزم: النتيجة الثقافية: عندما تصغي إلى دندنات العود لا تفكر في رحلات العصور التي أوصلت صناعة الآلة والمقامات إليك. تلك الذبذبات الصوتية وراءها مجلدات تاريخ.
abuzzabaed@gmail.com