الشارقة: عثمان حسن
حين نكون أمام قامة شعرية كالبحتري، فنحن أمام أمير الوصف، (أبو عبادة الوليد بن عُبيد بن يحيى) وينسب إلى أحد أجداده «بحتر»، وينتهي نسبه إلى قبيلة طيء، فهو يمني قحطاني من ناحية أبيه، وعدناني من ناحية أمه التي تنتسب إلى قبيلة شيبان العدنانية.
والبحتري كما كتب عنه، شاعر مجيد، راقت قصائده لمعاصريه فنالت إعجابهم، ودارت حوله وحول قصائده معارك نقدية انتصرت له ولمذهبه الشعري.
تميزت أشعاره، بأنها حلوة النغم، جميلة المطالع، رائعة الديباجة، وقد وصفت بسلاسل الذهب. كما أطلق معاصروه عليه لقب «شيخ الصناعة الشعرية».
ونحن هنا، أمام شاعر ومكان، المكان هو منبج حيث ولد البحتري، ومنبج مدينة سورية قديمة وأثرية في محافظة حلب، شهدت طفولة الشاعر، حيث تنقل بين روابيها وسهولها وفيها بزغت موهبته الشعرية.
ومن المهم في هذا المقام، أن نذكر بأن حلب، وردت على لسان كثير من مخضرمي الشعر العربي القديم ومن هؤلاء: أبي فراس الحمداني، وابن نباتة السعدي، وأبي العلاء المعري، كما وردت عند عملاق الشعر العربي «المتنبي» ومما قاله في حلب وأميرها سيف الدولة:
كُلّمَا رَحّبَتْ بنا الرّوْضُ قُلْنَا
حَلَبٌ قَصْدُنَا وَأنْتِ السّبيلُ
فِيكِ مَرْعَى جِيادِنَا وَالمَطَايَا
وَإلَيْهَا وَجِيفُنَا وَالذّميلُ
وَالمُسَمَّوْنَ بالأمِيرِ كَثِيرٌ
وَالأمِيرُ الذي بها المَأمُولُ
ترد منبج في قصيدة للبحتري بعنوان (عذيري فيك من لاح) التي قيلت أصلا في مدح الخليفة العباسي «المتوكل» الذي جمعت البحتري به علاقة حميمة، ومودة قوية، لتؤكد، على شاعرية متوهجة بارعة فيها من عذوبة اللغة، قدر ما فيها من جمال التصوير والوصف.. يقول مطلعها:
عَذيري فيكِ مِنْ لاحٍ، إذا مَا
شَكَوْتُ الحُبّ حَرّقَني مَلاَمَا
فَلا وأبيكِ، ما ضَيّعْتُ حِلْماً،
وَلاَ قَارَفْتُ في حُبّيكِ ذامَا
والقصيدة في إطارها العام هي قصيدة شوق وحنين جارف إلى مسقط رأس البحتري، ويمزج فيها بين حبه للمكان، وبين حبه لعلوة، فعلوة محبوبة البحتري وهي حلبية الديار، وعرف عنه هيامه بهذه المحبوبة، والتي ظل يتذكرها طوال عمره، وفي القصيدة يبرر البحتري لومه من قبل العاذلين على عشقه لحلب التي تركها لسنوات عدة، هذه المدينة التي يلتمس منها العذر، فكانت مغادرته لها خطيئة، لكنه يدعوها لكي توقظ فيه مشاعر الوفاء، وتعيد في داخله مشاعر الوصل بعد أن تحرق شوقا إليها وكابد الأمرين جراء فراقه لها.
أُلامُ عَلَى هَوَاكِ، وَلَيْسَ عَدْلاً
إذا أحْبَبْتُ مِثْلَكِ أنْ أُلاَمَا
لَقَدْ حَرّمْتِ مِنْ وَصْلِي حَلالاً،
وَقَدْ حَلّلْتِ مِنْ هَجْرِي حَرَامَا
أعيدي فيّ نَظْرَةَ مُسْتَثيبٍ،
تَوَخّى الأََجْرَ أوْ كَرِهَ الأثَامَا
تَرَيْ كَبِداً مُحَرَّقَةً، وَعَيناً
مُؤرَّقَةً، وَقَلْبَاً مُسْتَهَامَا
تَنَاءَتْ دَارُ عَلْوَةَ، بَعْدَ قُرْبٍ،
فَهَلْ رَكْبٌ يُبَلّغُهَا السّلاما؟
وَجَدّدَ طَيْفُهَا لَوْماَ وَعَتْباً،
فَمَا يَعْتَادُنا إلاّ لِمَامَا
لقد مثّل انتقال البحتري من منبج إلى حمص، فترة ذهبية في علو شأنه كشاعر استثمر موهبته في قصائد اعتبرت من عيون الشعر العربي، وكانت(عذيري فيك ) بحق واحدة من هذه القصائد الجميلة الوصف، وصحيح أنه غادرها متوجها إلى كنف الدولة العباسية، حيث الخلفاء المتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز بن المتوكل، غير أن مكوثه في العراق لم يقطعه عن موطنه التي ظل يزوره حتى وفاته. والقصيدة تعد اعتذارا إلى موطنه حلب، هذه القصيدة التي يشعر كل من قرأها بحلاوة الوصف ورقة العبارات.
في القصيدة، يدعو البحتري حلب أو منبج ب (دار علوة) التي بثها لواعج شوقه وحنينه، حيث ملاعب الصبا، وحيث السهول والسفوح، ذات الربيع المشرق على الدوام، فكتب أعذب الكلام في منبج ومحبوبته، التي كانت تأتيه كالطيف، حيث يعيش العاشق كل أشكال الوجد والصبابة، وفي القصيدة تحضر المحبوبة لتملأ المكان.
تَنَاءَتْ دَارُ عَلْوَةَ، بَعْدَ قُرْبٍ،
فَهَلْ رَكْبٌ يُبَلّغُهَا السّلاما؟
وَجَدّدَ طَيْفُهَا لَوْماَ وَعَتْباً،
فَمَا يَعْتَادُنا إلاّ لِمَامَا
وَرُبّتَ لَيْلَةٍ قَدْ بِتُّ أُسْقَى
بِعَيْنَيْها وَكَفّيْهَا المُدَامَا
قَطَعْنَا اللّيْلَ لَثْماً واعْتِنَاقَاً،
وأفْنَيْنَاهُ ضَمّاً والتِزَامَا
وَقَدْ عَلِمَتْ بِأنّي لَمْ أُضَيّعْ
لَهَا عَهْداً، وَلَم أخفِرْ ذِمَامَا.