لم يعرف النقاد القيمة الحقيقية ل «هرمان ملفيل» إلا في سنة 1919 حيث أخذوا يشيدون بمؤلفاته، باعتباره من أكبر رجال الأدب في أمريكا، فعرف جمهور القراء قصصه وأقبلوا عليها، لاسيما «موبي دك» و«تيبي» و«البحار الوسيم بيلي بد» التي أصدرت دار آفاق للنشر والتوزيع ترجمة عربية لها للكاتب مصطفى طه حبيب.
«البحار الوسيم» هي آخر ما كتبه هرمان ملفيل (1819 - 1891) وتركها مسودات في مكتبه، ولم يكن ليأمل أن يتمها أو أن يجد في نفسه القوة لينتهي منها، فقد كتب في الخامس من ديسمبر سنة 1889 لأحد أصدقائه: «لقد دخلت في الحلقة الثامنة من عمري، وأتيح لي بعد عشرين عاماً من العمل المتواصل خارج البيت موظفاً بالجمارك فراغ طليق من كل قيد، لكنه فراغ جاء وعنفوان القوة يتداعى، وقوة الصحة تضمحل، بحكم السن، وحكم الطبيعة التي لا ترحم، ومع ذلك فقد كرست ما بقي لي من قوة، وهو قليل، لأتمم أموراً بدأتها، ولم تنته، وما أحسبها تنتهي وفي العمر بقية».
ومن بين هذه الأمور التي بدأها ملفيل ولم تنته، هذه القصة عن حياة حارس السارية العليا في سفينة بحرية، فالثابت من أوراق ملفيل أنه منذ ثلاثين سنة، قبل كتابة هذه الرسالة، كان يخطط لقصة يقطر فيها عصارة تجاربه، ويضمنها تأملاته من فوق السارية العليا للسفينة حيث كان يعمل في شبابه، ومنذ ذلك الوقت وهو يعمل في إنتاجها، مستغلاً كل فراغ يتاح له، لكن زحمة الحياة حرفته عن غايته سنين عديدة، فلما هدأ الزحام وتقاعد عن العمل، وجد الهدوء ليعمل في إتمام قصة العمر. والقصة كما رسمها في خياله كانت جماع عدة حوارات واقعية، منها ما حدث له شخصياً على ظهر السفينة «الولايات المتحدة»، ومنها ما حدث لابن خاله عندما كان ضابطاً أول فوق ظهر إحدى السفن سنة 1842، فقد حدث تمرد على ظهر هذه السفينة كان ابن خال ملفيل محوره، ومن خيوط هذه الأحداث نسج الكاتب الأمريكي الكبير أحداث قصته، وأخذ يجد في إنهائها خلال الأشهر الثلاثة التي سبقت وفاته، وربما كان إحساسه بالمنية حافزاً له على التعجيل في مراجعتها، لكنه انتقل إلى الحياة الأخرى بعد منتصف ليلة 28 سبتمبر سنة 1891 ولاتزال أصول الكتاب على مكتبه، بخط يده، وإلى جانبها شعاره: «كن أميناً لأحلام شبابك».
كان هرمان ملفيل قد التحق في شبابه بإحدى سفن صيد الحيتان، وأبحر مع 25 بحاراً إلى المحيط الهادي في رحلة صيد، وفي هذه الرحلة عاش حياة البحر، بما فيها من مغامرات واختلط بالبحارة وعرف طبائعهم واحتك بقباطنة السفن، وفي هذه السفينة ثار على المعاملة القاسية التي يلقاها البحارة من أصحاب السفن الذين يجعلون الربح في المقام الأول، أما الزمن والبشرية فليس لهما حساب عندهم، ومن هذه السفينة فر مع صديق له ولجأ إلى إحدى جزر المحيط، وهناك وقع أسيراً، حيث عاش أياماً طويلة شهد فيها غرائب الحياة وعجائبها، وأتاح له القدر وسيلة للخلاص على ظهر سفينة عائدة إلى نيويورك من أستراليا.
وفي أكتوبر سنة 1844 عاد هرمان ملفيل إلى بوسطن وأخذ يروي على أهله وأصدقائه قصصاً متعددة الألوان لمغامرات البحار، واستجابة لرغبة أمه جلس يكتب روايته «تيبي» وانتهى منها بعد عام وأصبحت جاهزة للنشر، لكن دار هاربر رفضتها متعللة بأنه من المستحيل أن تكون رواية لحدث حقيقي، ومن ثمّ فليس لها قيمة أصلية، لكنها نشرت في لندن ثم أمريكا، وهكذا أصبح هرمان ملفيل بين يوم وليلة كاتباً محترفاً.
كانت تجارب الحياة تمده بفيض زاخر من الحكايات حتى إنه كان يقول: «وددت لو أن بركان فيزوف استحال إلى مدار لأكتب به كل هذا الذي كان يجيش في صدري»، ويقول في إحدى رسائله الخاصة: «إني محتاج إلى خمسين شاباً يكتبون ويكتبون كل هذا الذي أريد أن أملي»، لقد مرّ هرمان ملفيل بعدد من التجارب جعلته بحاراً ومغامراً وصائداً للحيتان، وكاتباً، ونزيلاً بين القبائل المتوحشة، ومتنقلاً بين جزر المحيط، وقد ملأته بأفكار وصور قلما تتوافر لإنسان، مهما تكن موهبته، وقد جلس يملي من خاطره ما ازدحم فيها من انفعالات وأحاسيس.
ومن ضمن الخلاصات التي توصل إليها، كما جاء في روايته «موبي دك» حين قال على لسان بطله «أهاب»: أيها الإنسان اجعل الحوت مثلك الأعلى في الحياة وأمطره إعجاباً بعد إعجاب، وترى، أتستطيع مثله أن تعيش وسط الثلوج ودمك يجري ساخناً؟ أو تعيش مثله في الحياة وكأنك لست منها؟ كن أيها الإنسان منتعشاً وسط حر خط الاستواء، في غمرة ثلوج القطب الشمالي، كن كقبة القديس بطرس في جلالها، بل كن كهذا الحوت، عش في فصول السنة كلها، ولك من جسمك حرارة ذاتية لا تتغير بتغيرها.
القاهرة: «الخليج»