كمن يُحرر محضراً أو تقريراً مقتضباً يريد التخلص منه، سجل الكاتب الفرنسي باتريك موديانو، سيرته الذاتية، تحت عنوان «سلالة» في 154 صفحة، لتكون أوجز سيرة عرفها تاريخ الأدب، صدرت نسختها العربية عن مشروع كلمة، وترجمتها دانيال صالح، وفقًا لشكل «الكتابة الشذرية» التي تتوافق مع حياة صاحب «مجهولات».
الأب عاش حياته مهدداً بسبب أصوله الإثنية في ظل الاحتلال النازي، زيّف هويته ليبقى، ولم يكتف بذلك بل انخرط في نشاط تجاري مشبوه، شكل لابنه الكاتب منذ صباه مصدر تساؤلات، ولغزاً كبيراً، والأم كانت ممثلة مغمورة عاشت في انتظار أبدي، لدور صغير تلعبه في فيلم أو مسرحية، يصفها موديانو في كتابه: «كانت فتاة جميلة، جافة القلب، أهداها خطيبها كلباً من صنف تشو تشو، لكنها لم تكن تعتني به، بل كانت تعهد به إلى أشخاص مختلفين، مثلما فعلت بي لاحقاً، ولقد انتحر الكلب بأن رمى بنفسه من النافذة.. يظهر ذلك الكلب في صورتين أو ثلاث صور، ولا بد لي من الإقرار بأن له تأثيراً عميقاً في نفسي، وأنا أشعر بأنني أقرب ما أكون إليه».
عاش الأب المهدد، والأم المغمورة، حياة مضطربة، صبغتها فترة الحرب، بالضياع والبؤس، فلم يرتبطا ببيئة محددة، كانت حياتهما تنقّلاً مستمراً؛ لذا لم تكن لدى موديانو سيرة محكمة ليسجلها، فعبثاً يبحث عن بعض المعالم والبصمات، في الماضي الممزق: «إن مراحل الاضطرابات الكبرى، غالباً ما تولد لقاءات غير مضمونة النتائج، بحيث إنني لم أشعر يوماً بنفسي ابناً شرعياً، ولا وريثاً، لم يكن والداي مرتبطين بأي بيئة محددة بشكل واضح، كانا متقلبين غامضين، حياتهما مضطربة حتى إنني أجدني مضطراً للبحث جاهداً عن بعض البصمات والمعالم، وسط هذه الرمال المتحركة، كمن يجاهد لملء بطاقة أحوال شخصية، أو استمارة إدارية بأحرف نصف ممحوة».
بلا مهادنة أو كراهية، يعود صاحب «شارع الحوانيت المعتمة»، إلى سيرة والديه الضائعين، وإلى مجتمع ما بعد الحرب، معتمداً على تكثيف المادة السردية، حيث يُراكم تدوينات سريعة متلاحقة، يُشكل منها مشهداً كبيراً، وترتسم إطلالة عريضة على حقبة بكاملها، لإيصال عبارات مقتضبة مع شيء من العطف والحنوّ على كائنات تلك الحقبة، المدموغة بهشاشتها.. كائنات بلا أهمية إلا فيما ندر، ضائعة في أغلبيتها العظمى، طوتها اليوم يد النسيان، لكنها بمرورها السريع وأفعالها المتوالية، أو عجزها عن الفعل تشكل تربة عالمه الخاص، يأخذ هو بعلاتها وتخبّطها وأخطائها، ويجعل منها رموزاً لفترة تاريخية مفصلية، حيث يرفعها إلى مقام الشهود، لا يُحاكمها ولا يُدينها بل يعرضها كما هي.
بعاطفة معروفة بتكتّمها، وموسيقى خاصة بصاحب «مقهى الشباب الضائع»، يصف موديانو مجتمع تلك الحقبة: «في الشوارع والمحطات وسائر الأماكن، أناس بلا وزن، مريبون أحياناً، لن نعرف أبداً مصائرهم، هذا في حال ما إذا كان لديهم مصاير، إنهم أشخاص من المستحيل إطالة التوقف عندهم، مجرد مسافرين مشبوهين يعبرون ردهات محطات القطارات من غير أن أعرف يوماً وجهتهم، إن افترضنا أن لهم وجهة، عجيب كان أمر أولئك القوم، وعجيب ذلك الزمن، زمن غامض ضبابي، التقى والداي في تلك الحقبة، بين هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يشبهونهما، فراشتان تائهتان طائشتان في وسط مدينة بلا بصر، لهذا دائماً ما أقول لنفسي من باب التعزية: إن الصورة مفبركة».
في هذا البحر الهائج والمستكين في آن، بحر مجتمع الحرب العالمية الثانية وما بعدها، نال صاحب «دورا بروديه» حصته من الحرمان والألم مبكراً، ذاق مرارة الفقد مع رحيل شقيقه الوحيد وهو طفل لم يتجاوز العاشرة، يحيطه موديانو في سيرته بمساحة واسعة من الصمت، ربما ليحميه من قسوة هذا المجتمع الذي نشأ فيه، لكنه لم يجد في سيرته ما يخصه سوى السنوات القليلة التي قضاها برفقة شقيقه: «إذا ما استثنيت شقيقة رودي، ووفاته، أعتقد أنه ليس ثمة بين كل ما سأنقله هنا ما يعنيني في الصميم، فأنا أكتب هذه الصفحات ربما للانتهاء من حياة لم تكن تخصني؛ ليس لديّ ما أعترف به ولا ما أكشف سره، وأنا لا أشعر بأدنى ميل إلى التأمل في النفس ومراجعة الضمير، بل على العكس كلما بقيت الأمور غامضة ومبهمة ازداد اهتمامي بها».
وسط كل هذا البؤس، أعرب الفتى عن إرادة في صنع الذات، بدأت برفضه تحقيق رغبة والده بالانخراط في وظيفة إدارية، حيث كان يراهن دائماً على مساحة الضوء الآتية من الأحلام، وصبواته الأدبية، حتى يتحقق التحرر الذاتي الكبير بفضل الكتابة.
يواصل موديانو كر سبحة تلك السنوات، بلا حنين، وإنما بصوت مستعجل ملحاح، عازفاً عن مراكمة التفاصيل، فهو يريد اختراق هذه السيرة المفككة، وصولاً إلى ولادته الحقيقية المتمثلة في شروعه بالكتابة الأدبية، لذا اقتصرت سيرته على فترتي الطفولة والصبا، وتوقفت مع ظهور عمله الأدبي الأول، فهو القائل بحسم: «مع الكتابة تبدأ الحياة، حياة ممكنة، وتتوقف السيرة، لأن سيرة الكاتب الحقيقية هي عمله».
حاز باتريك موديانو جائزة نوبل في الأدب عام 2014، حيث أعلنت الأكاديمية السويدية في بيان لها أن موديانو: «كُرم بفضل فن الذاكرة، الذي عالج من خلاله المصائر الإنسانية، الأكثر عصياناً على الفهم».
القاهرة: «الخليج»