الأحداث الكبيرة، السعيدة منها والجلل، لا تحدث كل أيام. إنها، في الأغلب الأعم، تأتي على صورة استثناء، أو فلنقل إنها بطبيعتها نادرة. يحدث أن تكون المسافات بينها قصيرة، لكن ليست هذه القاعدة. ففي الأغلب تكون الفواصل بين الأحداث الاستثنائية في حيوات البشر متباعدة، بالنظر إلى ندرتها.
هناك أفراح استثنائية لا تتكرر كثيراً، لأنها ترتبط بحدث سعيد من تلك الأحداث التي نمر بها، وبالمقابل هناك أحزان استثنائية تجتاحنا إثر حدث سيئ نمر به، من دون أن يعني هذا أننا لا نفرح، أو نحزن إلا استثناء. ثمة أفراح كثيرة تهدينا إياها الحياة، وثمة أحزان ليست قليلة تمتحننا هذه الحياة بها، ولكنها جميعاً أفراح وأحزان عادية، مألوفة، نمر بها كل يوم. يمكن لمزاجنا في اليوم الواحد أن يتقلب بين الشعور بالبهجة، أو الشعور بالأسى، تبعاً لما نمر به من مصادفات، أو حتى ما نعيشه من مألوف العادة ورتابة الحياة.
نخلص من هذا أن حيواتنا إنما تقع في أغلبها في منطقة العادي، العادي جداً، في السلوك الذي اعتدنا الإتيان به كل يوم، سواء أكنا في موقع العمل، أم كنا في منازلنا، أم في صحبة من نصطفي من أصدقاء، أو أحبة. على الإنسان توطين نفسه مع هذه الحقيقة. الاستثنائي الجالب للسعادة الغامرة، مثلاً، نادر، ومن هنا استثنائيته. حتى من يحسبون أنفسهم سعداء، بمعنى أنهم أحرار من منغصات الحياة، أو لا يعانون إلا القليل منها، تصبح سعادتهم، بحكم التكرار، عادية، وليس فيها ما يبعث على الفضول، وقد لا يفطنون إلى حقيقة أنهم سعداء إلا إذا ألمت بهم محن تضعهم في موقع المقارنة، بين ما كانوا فيه، وما آلوا إليه.
أردنا من هذه التوطئة الوصول إلى القول إن المجال الحيوي للأدب، بالذات، يكمن في العادي، لا بل والعادي جداً، في المألوف والمكرر، حتى لو تخللت هذا الأدب ذرى درامية من نوع ما ينتهي إليها السارد إذا كان سارداً، فهذه الذرى هي، بدورها، استثناء، لحظة خاصة في مسار سردي عادي ومألوف يضج بتفاصيل الحياة التي يعيشها البشر، وبالمهام التي يمارسونها تلقائياً وعفوياً كل يوم، حتى من دون مراقبة لأنفسهم.
ولعل في فعل الرقابة هذا يكمن سر الأدب، أو جوهره. الأديب، والمبدع عامة، يتميز عن سواه من البشر في امتلاك القدرة على ملاحظة العادي والمألوف وتحويله إلى مادة إبداعية، أي غير عادية. إنه صاحب بديهة في التقاط التفاصيل التي قد تكون عادية جداً، ويمر أمامها الناس جميعاً كل يوم، لكن من دون أن تستثير لديهم اهتماماً، لكن المبدع يرى غير العادي حتى في العادي، والبسيط، والمكرر، كالطريقة التي بها يأكل الإنسان، أو بها يمشي أو يتحدث، وكزاوية المكان الأثيرة على نفسه في بيته، أو غرفته.
madanbahrain@gmail.com
د. حسن مدن