فرنسا بالذات تشكل مختبراً نموذجياً للتعريف بالمثقف وتوصيف دوره، وتأطير مكانه في المجتمع من حوله. لا يعني هذا أنها المجتمع الوحيد، الذي يمكن رصد ومناقشة دور المثقف فيه؛ لكنها لأسباب تاريخية توفرت فيها هذه الميزة، التي جعلتها محط الأنظار حين يجري الحديث عن الثقافة والمثقفين.
ريجيس دوبريه هو أحد مثقفي فرنسا البارزين، الذين يعتد بهم وبمساهماتهم في تحديد من يكون المثقف، أو فلنقل في تعريف المثقف، وتطور دوره، وتغير تموضعه بين فترة وأخرى. الحق أنه لم ينل ما ناله جون بول سارتر من صيت في مجال ما أطلق عليه إدوارد سعيد «الدور العمومي» للمثقف؛ لكنه ليس أقل أهمية منه في هذا المجال، ولو لفترة محدودة من حياته، حين هجر فرنسا إلى أمريكا اللاتينية، القارة التي وصفت بـ «الملتهبة» في مراحل مختلفة، وهي صفة ما زالت صالحة لأن تطلق عليها حتى الساعة.
أُخِذَ دوبريه بـ«الثورة الكوبية» بزعامة فيدل كاسترو، وشغل منصب أستاذ في جامعة هافانا بُعيد انتصار تلك الثورة، ثم أصبح رفيقاً لإرنستو تشي جيفارا؛ حيث حكمت عليه السلطات البوليفية بالسجن لمدة ثلاثين عاماً، والحق أنه لم يقض منها في السجن سوى ثلاث سنوات، وعاد إلى فرنسا؛ لكنه أعاد تموضعه في الحياة الثقافية في بلده، فلم يعد ذلك الثائر اليساري المتحمس، وإنما بات أقرب إلى المنظر والمحلل، ما جعل فرنسوا ميتيران يستعين به كمستشار له خلال فترة رئاسته لفرنسا.
مجمل تجربة الرجل جعلته في موقع يتيح له أن ينظر بانورامياً إلى تحولات المثقف، وطبيعي أنه انطلق في ذلك من واقع بلده فرنسا ذاتها، حين لاحظ كيف بدأ المثقفون في البحث عما وصفه ب «المأوى»، الذي يحميهم من صور القمع والملاحقة، ويتيح لهم هامشاً للتفكير والتعبير بشكل مختلف، وهذا «المأوى» نفسه تبدل بين فترة وأخرى.
ف «المأوى» الأول لهم هي الجامعة، وتحديداً جامعة السوربون، يوم كانت السوربون «سوربونا»؛ حيث وجدوا فيها الملاذ من بطش الكنيسة والتسلطية البونابرتية؛ إذ كانت فصول الدرس والمختبرات والمكتبات تيسر للمثقف الحيز الذي كان ينشده من الاستقلالية، وكونه محمياً بأسوار الجامعة؛ فقد وفّر له ذلك درجة من الحصانة لم تكن متاحة خارجها.
لكن «السوربون» فقدت مع الوقت ما كان لها من مكانة، فوجد المثقفون ملاذهم التالي في دور النشر؛ حيث جاء جيل ثان من المثقفين غير جيل الأكاديميين الأوائل، أمثال: سارتر، وسيمون دي بوفار، ومالرو وأندريه جيد، وسواهم ممن تحلقوا حول دور النشر الجديدة، التي تولت نشر أعمالهم لتصل إلى قطاعات أوسع، بلغة تخلت عن بعض مهابة لغة الأكاديميين.
لكن سرعان ما تخلت دور النشر عن هذا الدور لمصلحة أجهزة الإعلام، والتلفزيون خاصة، فأصبح الجمهور الواسع، لا الجامعة ولا دور النشر، من يحدد مكانة المثقف.
madanbahrain@gmail.com