إلى أي حد تعترف الثقافة ضمن منظومتها القيمية بحدود الاختلاف بين البشر وتحترم بالتالي حدود ذلك؟
إن البشر مختلفون وسيظلون كذلك إلى ما شاء الله، هذه حقيقة نبهنا إليها القرآن الكريم، ويؤكدها في كل يوم سلوك الناس إزاء القوالب الفكرية التي تحاول جاهدة أن تُنظر لشكل إنساني موحد.
ربما يصح على الإنسان ما صح على الضوء؟ هكذا يفكر أهل فيزياء الكم، ففي ثلاثينات القرن الماضي وأثناء جدل الاكتشافات الحديثة آنذاك والتي عرفت باسم فيزياء الكم، كانت النقطة المفصلية التي ناقشها العلماء أثناء محاضراتهم في الجامعات هي: كيف يمكننا أن ننتقل من نظرتنا المسبقة للضوء على أنه مجموعة ذرات، إلى تصور كمي يقضي بأن الضوء يمكن أن يكون أمواجاً كذلك؟
وفي جوابه على هذه المسألة قال الألماني هايزنبيرج ما معناه إن كل ذلك ممكن الحدوث في آن واحد، وإن الضوء هو الضوء لكن له طبيعة مزدوجة، ففي بعض الأوساط يسلك سلوك الذرات وفي بعضها الآخر يسلك سلوك الأمواج، ولا تعارض بين كل ذلك.
كان الأمر صاعقاً في البداية لمن لم يتعودوا أن يفكروا خارج الصندوق، ولمن لا يسمحوا لعقولهم أن تتصور أن الاختلاف ممكن حتى داخل الشيء نفسه، لكن مع الاكتشافات العلمية التي بنيت على أساس تلك الفرضيات، والتي يزخر بها عصرنا الحالي اختفت الدهشة، وحل مكانها قبول مستسلم بأن لبعض الأشياء في الطبيعة سلوك مختلف في أوساط مختلفة.
الحداثة وما بعد الحداثة وغير ذلك من التفسيرات التي تحاول إدراك كنه السعادة وتحقيقها للإنسان، تتجاهل في معظمها أن الإنسان مختلف بحسب الجغرافيا وبحسب التاريخ، وإجمالاً بحسب ما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو: الرأسمال الرمزي.
وبذلك المعنى فإن الثقافة التي تصنع وعي وسلوك الناس في الشرق لن تصبح إطلاقاً شبيهة - تماماً- بالثقافة التي تصنع الوعي والسلوك في الغرب مثلاً، إننا نتحدث عن منظومتين معقدتين يدخل فيهما كثير من العوامل تبدأ بالفطرة والتربية الأولية، والمؤثرات المجتمعية، والفولكلور والعادات المتوارثة - حتى ولو كانت خاطئة، والكثير غير ذلك.
وفي محاولتهم لدفع الناس نحو تجاهل ذلك الاختلاف، استخدم بعض دعاة الانصهار والذوبان الثقافي لكل الناس ضمن ثقافة واحدة سائدة غالبة، نوعاً من الفوبيا لوحوا من خلالها بحتمية التصادم بين الحضارات المختلفة إذا لم يحدث ذلك التمازج والتماهي القسري.
لكن المستقبل القريب قد يقود إلى قناعات جديدة، وإلى تسليم يشبه ما حدث في فيزياء الكم، ويعطي صورة من التعايش وقبول الآخر المختلف، واعتباره من قِبلِنا نفس الإنسان الذي نحن هو مهما بدا مختلفاً.
pechike@gmail.com