Quantcast
Channel: صحيفة الخليج | الخليج
Viewing all articles
Browse latest Browse all 56024

ذكاء وغباء

$
0
0
د. حسن مدن

أشرت هنا، قبل سنوات عديدة، إلى حكاية أوردها يوسف إدريس في إحدى مقالاته عما قاله له مختص كبير في اختبارات الذكاء بمستشفى «هامر سميث» في بريطانيا، حيث كان يفحص طفل عربي، وحين أجريت عليه اختبارات الذكاء كانت نسبة درجاته أعلى بكثير من المعتاد في هذه السن.
وظنّ إدريس، يومذاك، أن هذا الطفل نابغة، لولا أن المختص أوضح له: «إن هذا ليس أول طفل من بلادكم أجري له الاختبار، وهو ليس أول الحاصلين على هذه النسبة، لكن الغريب أن أطفالكم يظلون كذلك إلى حوالي الخامسة ثم تبدأ نسبة ذكائهم في الهبوط، بينما تأخذ نسبة أقرانهم الإنجليز أو غيرهم في الارتفاع بحيث يتفوقون عليهم بمراحل».
هذا الذكاء الفطري يفترض أن يقابله نظام حياة ينميه ويربيه على تكوين مجتمع ذكي يعمل طول الوقت ويطور نفسه بحيث يستطيع أن يستوعب ذكاء أفراده، وبذكائهم الجماعي يحيا ويتقدم وينتج، ولكن عكس هذا هو الذي يحدث، بحيث يجد الفرد الذكي نفسه في حالة صدام مع مجتمع قاصر عن استيعاب ذكائه.
وقد وجدتُ تناولاً لهذا الموضوع في كتاب الدكتور هشام شرابي «مقدمات لدراسة المجتمع العربي»، وإن يكن من زاوية مختلفة لكنها تؤدي إلى النتيجة ذاتها، حيث يسأل شرابي: لماذا نتوقع جميعاً أن يكون أبناؤنا أقدر وأشدّ ذكاءً من سائر الأبناء، ولماذا تختلف النتيجة دائماً عن توقعاتنا، فحين يبلغون سن الرشد لا يختلف وضعهم عن وضع أقرانهم ذكاءً وكفاءات، ولا يمتازون عنهم إلا في حدود ما يختلف الأفراد بعضهم عن بعض في الطبع والميول والعادات.
ما نعتبره في الطفل ذكاءً حاداً أو مقدرة متميزة كثيراً ما تكون صفات للفرد في طفولته، لكنه يفقدها من جراء التربية التي نفرضها عليه والمعاملة التي نعرضه إليها والتي تقتل سريعاً شعلة الذكاء الطبيعية في نفسه، وتقضي على القدرات الفطرية فيه.
وما أن ندخله المدرسة والمجتمع حتى يكون استعد نفسياً لأن يتقبل الأفكار والأساليب الاجتماعية السائدة، فينسى أحلامه وتتبعثر قدراته ويرضخ لإرادة الجيل القديم التي تجدد نفسها وتفرض سلطتها من خلال العائلة والمجتمع.
يصف شرابي تلك ب «عملية التطبيع الاجتماعي من المهد إلى اللحد»، وما هي إلا استمرار الاستعباد التي يفرضها الجيل القديم على الجيل الجديد، لأننا نسعى لجعلهم على صورتنا كما فعل آباؤنا فجعلونا على صورتهم، لذلك يجابه الطفل ما يعده الكاتب «تحالفاً من العائلة والمجتمع» ضد مواهبه وقدراته، وهو تحالف على قدر من الصلابة بحيث لا يمكن قهره.
بناء على هذا كله يسأل شرابي: كيف لنا أن نحدث تغييراً في المجتمع، فالمجتمع لا يمكن تغييره إلا بتغيير تفكير العائلة، وهذا بدوره لا يتحقق إلا بتغيير المجتمع، لما بينهما من ترابط.

madanbahrain@gmail.com


Viewing all articles
Browse latest Browse all 56024

Trending Articles



<script src="https://jsc.adskeeper.com/r/s/rssing.com.1596347.js" async> </script>