توفي الكاتب الروسي الشهير فيودور ديستوفسكي في عام 1881، أي نحو قرابة أربعة عقود قبل قيام الثورة البلشفية، ومع ذلك نعثر في بعض ما كتبه ما يشير، وبوضوح، إلى أن التناقض بين الغرب وروسيا سابق لهذه الثورة التي أسست لنظام اجتماعي وسياسي مناقض للأنظمة القائمة في الغرب، حيث دخل الأخير في حرب باردة طويلة مع روسيا السوفييتية استمرّ عقوداً طويلة. والتجربة تبرهن اليوم على أن هذه «الحرب الباردة» لم تنته بزوال الهوية السوفييتية لروسيا، ولا انفصال الجمهوريات التي كانت تشكل معها الاتحاد السوفييتي عنها.
أقوال ديستوفسكي بصدد هذه المسألة أتت في سياق حديث له عن مواطنه شاعر روسيا الأكبر ألكسندر بوشكين الذي كان ديستوفسكي معجباً به، وهذا الإعجاب كان محل ملاحظة دارسي سيرة ومواقف ديستوفسكي الذي عرف بخصوماته مع نظرائه من الأدباء، وتقلب مواقفه تجاههم، وهي ظاهرة معهودة على كل حال في العلاقات بين الأدباء في مختلف البلدان ومختلف العصور.
إزاء بوشكين ظلّ موقف ديستوفسكي ثابتاً: الإعجاب الكبير، والثناء على إبداعه، لا بل والتأثر الكبير بأدبه، للدرجة التي حملت أحد النقاد الروس على القبول بأن رواية «الجريمة والعقاب» لديستوفسكي هي من أكثر الأعمال «بوشكينية». ويضيف هذا الناقد: إن عبقرينا الأكثر مرضاً،أي ديستوفسكي، في إشارة إلى إصابته بمرض الصرع والاضطراب النفسي، كان يشعر طوال حياته بأنه مشدود إلى عبقرينا الأكثر صحة، أي بوشكين.
يبدي مؤلف كتاب «ديستوفسكي - إعادة قراءة»، ي. كارياكين، تحفظه على الانطباع السائد في الغرب بأن مفتاح الروح الروسية موجود في أدب ديستوفسكي وحده في أغلب الأحيان، ومصدر هذا التحفظ آتٍ من سبب بسيط، كما يقول، هو أن شخصاً واحداً حتى لو كان الأكثر موهبة، لا يمكنه أن يكون الممثل الروحي لأمة بأسرها، مضيفاً: «وعلى أي حال لا يستطيع المرء أن يفهم روح الشعب الروسي بدون قراءة بوشكين».
كي ندرك جوهر هذا القول علينا قراءة ما قاله ديستوفسكي نفسه عن شعر بوشكين ومجمل أدبه: «لو عاش بوشكين وقتاً أطول لكان في مستطاعه أن يبتدع صوراً عظيمة خالدة تشرح الروح الروسية لإخوتنا الغربيين ولاستطاع أن يجعلهم أقرب منا أكثر مما هم الآن، ولاستطاع أن يقول لهم الحقيقة كلها عن أمانينا، ولكان في مقدورهم أن يفهمونا أفضل مما يفعلون الآن، ولاستطاع أن يوقف نظرتهم إلينا بعدم ثقة وغطرسة، كما لا يزالون يفعلون اليوم. لو عاش بوشكين وقتاً أطول لكان بيننا سوء تفاهم أقل وشك أقل مما نرى اليوم».
أهمية هذه الشهادة ليست فقط في تعبيرها عن خصوصية الروح الروسية، وإمساك بوشكين بهذه الروح، وإنما أيضاً في حقيقة أن الغرب لم يفهم روسيا أبداً بصرف النظر عمن يحكمها. ولا يزال مستمراً في ذلك حتى اللحظة.
madanbahrain@gmail.com