بعكس القراءات المتداولة فإن كتاب «التاريخ الوجيز لمحاكم التفتيش بإسبانيا» للمؤرخ جوزيف بيريز، الصادر عن مشروع «كلمة»، والذي قام بنقله إلى العربية د.مصطفى أمادي، لا يغرق فقط في بحر تفاصيل العلاقة بين الفكر والسياسة، يل يقدم أيضاً إسهاماً ثقافياً خلاقاً حول الظروف التي أنتجت محاكم التفتيش في إسبانيا على وجه الخصوص، وكيف أسهمت في سيادة ثقافة اللاتسامح ردحاً من الزمان تجاه المعتقدات والأفكار المختلفة والغريبة.
يتناول الكتاب محاكم التفتيش الإسبانية، والسند الذي قدمته للكنيسة في فرض سطوتها على الشأن السياسي والعام عبر معاقبة من أسمتهم بالمهرطقين والكثير من الضحايا الأبرياء، وواجهت كثير من الديانات، بينها الدين الإسلامي، المضايقات من قبل السلطة الفكرية السائدة التي شكلتها الكنيسة، ويدلف المؤلف على مجموعة من المساهمات التي كتبت حول محاكم التفتيش، وبحثت بشكل تاريخي عميق في علاقة الفكر بالسياسة، ويذهب إلى طرح مجموعة من الأسئلة التي تصب في عمق علاقات نظام ومحاكم التفتيش ومصادر تمويلها، ويقدم شرحًا يتناول الأهداف التي من أجلها تم إنشاء هذه المحاكم وما ترتب عليها من تبعات وعواقب وخيمة شوهت لفترة طويلة التاريخ الأوروبي، والإسباني على وجه الخصوص.
اهتم المؤلف بوضع فهارس بأسماء الكتب المحظورة في تلك الحقبة، على الرغم من أهميتها وقيمتها المعرفية والفكرية الكبيرة، وهو ما يعكس صورة محاكم التفتيش سيئة السمعة خاصة في المناطق التي كانت تحت سلطة الملكين فرديناند وإيزابيلا، ثم تحت حكم آل هابسبورغ، وأخيراً، تحت حكم أوائل البوربونيين. ويتعرض إلى مواضيع مثل: المسلمين، العرب، اللوثرية، التحولات الصوفية، الإيمان والأخلاق، الجهاز الإداري والمالي لمحاكم التفتيش، المحاكمات والسلطات التنفيذية والسياسية لمحاكم التفتيش.
وينفتح الكتاب على الدواعي المؤسسة لمحاكم التفتيش، حيث سعت هذه السلطة المستمدة من النفوذ الكنسي، إلى محاربة كل أشكال الاختلاف العقدي والفكري من خلال الحلول القمعية، وشملت تلك المحاكم قطاعاً جغرافياً واسعاً في معظم أنحاء إسبانيا، فما بين عامي 1478 و1502، اتخذ فرديناند ملك أراغون، وإيزابيلا ملكة قشتالة، ثلاثة قرارات متكاملة هي: إنشاء محاكم التفتيش بترخيص من البابا، وطرد اليهود؛ وإجبار مسلمي مملكة قشتالة على اعتناق الكاثوليكية.
ينقلنا الكتاب إلى أجواء الرعب الفظيعة التي سادت نتيجة لمحاكم التفتيش في إسبانيا، والتي شملت حتى المسيحيين المشكوك في ولائهم لعقيدتهم، حيث ساد أخذ الناس بالشبهات، والوقائع المزيفة غير الحقيقية، والبلاغات الكاذبة المضللة، مما خلق أجواء من الفوضى والخوف الشديد بين الناس، خاصة من غير المسيحيين الأصليين.
يقف المؤلف عند تاريخ يوم 6 فبراير/ شباط من عام 1481م، حيث نفذت في ذلك اليوم أول عملية إعدام في المحرقة، وتلتها عمليات أخرى، وكانت بعض المحاكم أكثر قسوة من غيرها على نحو ما كانت عليه محكمة إشبيلية، التي أصدرت الكثير من أحكام عقوبة الإعدام ضد من أدانتهم بالهرطقة بلغت ربما 700 حكم إعدام، وآلاف العقوبات الأخرى، خاصة السجن المؤبد، ما بين 1481م و1488، وكانت المحاكمات تدار وتتم بقسوة صارمة، مما أدى إلى ارتفاع بعض الأصوات المحتجة من بعض المثقفين حينها، على وجه الخصوص صوت المؤرخ بولغار، والكاتب خوان راميريز دي لوسينا، والتي كانت تطالب بالرفق بالمسيحيين الجدد، الذين كان الجهل، في أغلب الأحيان ذنبهم الوحيد، وقد لجأ كثير من ذوي الضحايا إلى البابا، والذي أقر بدوره بأنه قد تعجل بالموافقة على الإجراءات التي قام بها الملكان فرديناد، وإيزابيلا، وبرر ذلك بأنه لم يكن يدري لحجم الامتيازات التي منحت لهم، وقد كانت تلك مناسبة لتدخل جديد من الكنيسة، حيث إنها أرادت أن تجرى محاكم التفتيش بذات الكيفية التي جرت في العصور الوسطى على يد الأساقفة، ولكن وفاة البابا سيكستوس الرابع أعادت السلطة مرة أخرى للملكين لتصبح لديهما سلطات مطلقة.
يتناول المؤلف بدقة خصوصية محاكم التفتيش في إسبانيا واختلافها عن الدول الأخرى، فما بين عامي 1480 و1834، حيث كانت خاضعة للسلطة الملكية، وهذا ما يميزها عن باقي أشكال التعصب التي كانت سائدة في أوروبا، حيث تعاونت السلطة المدنية مع السلطة الروحية، ولم تكتف السلطة المدنية هناك بدعم الكنيسة بل أخذت هي المبادرة للممارسة الاضطهاد.
الشارقة: علاء الدين محمود