Quantcast
Channel: صحيفة الخليج | الخليج
Viewing all articles
Browse latest Browse all 56024

تحويل المنسي إلى ذاكرة

$
0
0
د. حسن مدن

يمكن القول إن الذاكرة نقيض النسيان، ولكن بقدرٍ يزيد أو ينقص من التحفظ، ذلك أن مفردة الذاكرة حين ترد تحيلنا إلى أمرٍ ماضٍ نخشى عليه من النسيان، فنسارع إلى حفظه في الذاكرة، كأن الذاكرة هي مستودع النسيان، أو للدقة نقول: مستودع ما لا نريد نسيانه، أو لا نريد أن ينسى ليس منا نحن كذوات فحسب، وإنما من الآخرين أيضاً، ليبقى حاضراً ما قدر له أن يبقى.
في أحد مواضع كتابي «ترميم الذاكرة» قلت: «نحن لا ننسى، إنما نتظاهر بالنسيان. إن رغبة ملحة، معذبة تنتابنا في التحرر من الألم عن الشعور بالفقد مثلاً هي التي تحملنا على السعي لإقصاء الأمر من الحضور اليومي في أذهاننا، من الحضور الدائم. وربما ننجح بعد طول تدريب في أن نفعل ذلك، لكننا لا نكون بذلك قد نسينا»، وهذا ما نفهم منه أن النسيان هو ذاكرة أيضاً، ولكنها ذاكرة متوارية، أو مواربة، حيلة من حيلنا كي نتفادى ما يؤلمنا من ذكريات.
ما نحن بصدد الحديث عنه هنا ليس أن النسيان هو ذاكرة أيضاً، وإنما العكس تماماً، أي أن الذاكرة هي دائماً عاجزة عن أن تتحول إلى مستودع لكل المنسي، فهي انتقائية بشكل مدهش، في احتفاظها بأحداث وتفاصيل وأسماء وأمكنة، بصرف النظر عما تبعثه في نفوسنا من مشاعر مختلفة حد التناقض، فبينها ما يجلب لنا الألم والأسى، وبينها ما يفرحنا ويثير في نفوسنا البهجة، ولكنها، أي الذاكرة نفسها، تقصي الكثير من الأحداث التي لا تحضرنا وقت نشاء، ولا نفلح في استعادتها حتى لو سعينا.
هذا على الصعيد الفردي، أي ذاكرة الفرد منا، لكن الأمر يكون أشد فدحاً حين يتصل بالذاكرة الجمعية لشعب من الشعوب أو جماعة من الجماعات، فالذي يحدث هنا ليس أمراً متصلاً بالذاكرة الفردية كنشاط ذهني خاص بالمرء، تحتفظ بما تريد وتقصي ما تريد، وإنما بسياسات موجهة ومدروسة ترمي لشطب صفحات، أو حتى حقب زمنية كاملة، من الذاكرة الجمعية وإقصائها، فلا تعود الأجيال الجديدة والقادمة تعرف عنها شيئاً، فتنشأ هذه الأجيال وهي فاقدة لذاكرتها الجمعية، أو لأركان مهمة من هذه الذاكرة تتصل بهويتها.
جزء كبير من صراعات الحاضر يتوسل إقصاء الهوية، التي تدل التجارب أنها أحد عوامل استنهاض الأمم ويقظتها تجاه حاضرها ومستقبلها، فإذا جُردت منها فقدت أحد أهم أسلحة مقاومة ما تواجهه من مخاطر، وليس أدل على ذلك من تمسك الشعب الفلسطيني برموز هويته في مواجهة العدو «الإسرائيلي» الذي يستهدف طمس هذه الهوية.
لكن الخطر لا يأتي فقط من السياسات الموجهة والمدروسة وحدها، وإنما يأتي أيضاً من آفة الإهمال التي تقع فيها الأمم تجاه ماضيها، حين تتقاعس في تحويل «المنسي» إلى ذاكرة.

madanbahrain@gmail.com


Viewing all articles
Browse latest Browse all 56024

Trending Articles



<script src="https://jsc.adskeeper.com/r/s/rssing.com.1596347.js" async> </script>