في منتصف سبعينات القرن الماضي أتى صبري موسى، المبدع الذي غادرنا مؤخراً، إلى البحرين للعمل في المجلة الأسبوعية الشهيرة، يومذاك: «صدى الأسبوع» التي كان لي شرف تلقي خبراتي الأولى في الكتابة الصحفية فيها، وعلى يد صاحبها ورئيس تحريرها الأستاذ علي سيار، أحد أبرز رواد الصحافة البحرينية، عافاه الله وأمدّ في عمره.
كان علي سيار مأخوذاً بالمدرسة الصحفية التي تمثلها مجلة «روز اليوسف»، وشقيقتها «صباح الخير»، ويراها مدرسة ذات طعم مختلف في الصحافة المصرية والعربية، ويحرص على متابعة المجلتين كل أسبوع. وأحسب أنه نقل عدوى هذا الإعجاب بهما إلينا نحن الذين عملنا تحت رئاسته، ويبدو لي أن اتفاقه مع صبري موسى، بالذات، للمجيء للبحرين والعمل في «صدى الأسبوع» آتٍ من هذا الإعجاب بتلك المدرسة الصحفية التي كان صبري موسى، الروائي والصحفي، أحد أبرز وجوهها.
حدث هذا، على ما أرجح الآن، في العام 1975، حيث كنت قد التحقت بالدراسة في جامعة القاهرة، ولكني حين عدت إلى البحرين في الإجازة الصيفية من ذلك العام، عاودت العمل في «صدى الأسبوع» حيث التقيت صبري موسى، وأذكر أن أول مقال كتبته في تلك الإجازة وكان محل استحسانه عن السجال الساخن في مصر حول عهد جمال عبد الناصر، في السنوات الأولى من ولاية أنور السادات.
لكن الراسخ في ذهني من الذكريات القليلة مع الرجل حكاية مشوار قطعناه في نهاية الدوام ذات مساء من مساءات صيف البحرين الحار مشياً على الأقدام من مقر المجلة الذي كان عبارة عن شقتين متقابلتين في عمارة صغيرة تقع على بعد أمتار قليلة فقط من الشارع الأشهر في المنامة: شارع باب البحرين، وهو الشارع الذي قصدناه، ولفت نظري أن صبري توقف عند أحد محال بيع البهارات التي يعج بها السوق، وراح يسأل البائع عن تفاصيل كل نوع منها، ويصغي إلى الشرح باهتمام كبير، ويستوضح المزيد من التفاصيل.
لم يكن ذلك فضول الصحفي فحسب.
كان أساساً فضول الكاتب الروائي المعني بالتفاصيل الصغيرة التي يحولها في أعماله إلى نسيج روائي شائق. وحين قرأت روايته الأشهر «فساد الأمكنة» أمكنني أن أدرك سر هذا الشغف بالتفاصيل، الذي يميّز المبدعين الكبار مثله.
لم يطل صبري موسى الإقامة في البحرين، فقد حدث ما هو غير متوقع، فلظروف يطول شرحها أوقفت المجلة التي جاء إلى البحرين للعمل فيها. صحيح أنها عادت للصدور بعد حين، ولكن توقفها طال كثيراً، فعاد الرجل إلى موطنه.
حين عدت إلى القاهرة بعد انتهاء الصيف هاتفته، واتفقنا أن أزوره في مكتبه بمبنى «روز اليوسف» في شارع القصر العيني. وكانت هذه المرة الأخيرة التي ألتقيته فيها، وما زالت شذرات من حديثه، أثناء ذلك اللقاء، باقية في ذهني.
madanbahrain@gmail.com